الفن، أو الرسم والنحت تحديداً، هو أثر راسخ لا ينجلي تتركه الأمم خلفها، وقصة تحتفظ بها الأرض داخلها بعيداً عن الضوضاء، والتقلبات المتعاقبة بمرور الزمن، بالتالي يُصبح سجلاً كاملاً يروي تفاصيل تلك الأمم التي رحلت، أو يصبح أرشيفاً متكاملاً يروي قصة حياة أحدهم، كما هو الحال في حالات أشهر الرسامين.
لكننا هنا نتناول الفن من الناحية الأثرية التي حُفظ ووجد بها في أماكن متفرقة من باطن الأرض. هو فن النحت، أو الرسومات الجدارية داخل الكهوف، والتي حددت ملامح ونمط عيش وثقافات تلك الأمم الفانية.
تمثلت تلك المنحوتات القديمة ، في ترتيب تنازلي منذ سنين ما قبل الميلاد حتى القرن السابع كالآتي
الفنون الصخرية، منذ 290.000 – 700.000 سنة قبل الميلاد
كهف بيمبيتكا في الهند
Cupules
الفن الصخري العتيق الذي تميزت به أشكال الصخور في الطبيعة منذ تاريخ ما قبل الميلاد، وجد داخل مجموعة من الكهوف في أماكن متفرقة من العالم.
أقدم تلك النماذج وجدت في هيئة فنية أطلق عليها علماء الآثار اسم “cupules”، وهي مجموعة من الأغوار المنحوتة في الصخر تُعطي شكل الكأس، وتُرتّب في شكل صفوف أو أعمدة على جدران الكهوف.
تم العثور على أقدم النماذج الفنية تلك في كهوف “بيمبيتكا” في وسط الهند، و بسبب توفر معلومات عن الظروف القديمة التي أحاطت بالكهف، عُثر على نوعين على الأقل من تلك الآثار التي تعود للعصر “الحجري القديم الأدنى – Paleolithic”، بالإضافة إلى تسع أمثلة أخرى تعود لنفس الفترة الزمنية.
بالكشف عن تلك الآثار باستخدام الكربون المشع، يَعتقد المؤرخون أن تلك القطع الأثرية تعود تحديداً لثقافة “Acheulian”، وهي ثقافة أثرية ظهرت خلال فترة العصر الحجري القديم الأدنى، تميزت بصناعة الأدوات الحجرية التي يميزها الشكل البيضوي، أو شكل الكمثرى. تتشابه تلك الآثار الموجودة في الهند مع آثار أخرى موجودة في أفريقيا وأوروبا منذ 290.000 سنة مضت.
مجموعة Cupules في كهف داراكي- تشاتن
المجموعة الأخرى من تلك قطع الفنية “cupules”، وجدت في كهف “داراكي- تشاتن”، ويقدرعددها نحو 500 مجموعة من نفس الفترة الزمنية السابقة تقريباً، بالإضافة لمجموعة كبيرة من الأدوات الحجرية المبكرة التي كانت تستخدم آنذاك داخل الكهف. وتعتبر كهوف “داراكي – تشاتن” أكثر المواقع في العالم الغنية بصخور الـ cupules.
من جهة أخرى، يرى بعض علماء الآثار، أن تلك النماذج الصخرية لا تدخل ضمن تصنيف الفن حسب قولهم، وذلك لاعتقادهم أنها ربما تكون ناتجة عن الاستخدامات المعيشية القديمة من قِبل الأشخاص، على سبيل المثال طحن الحبوب، حيث أن بعض الثقافات لا تزال إلى الآن تستخدم تقنية طحن الحبوب عن طريق استخدام الصخر. لكن ما دحض قولهم، هو وجود بعض تلك النماذج على الجدران الرأسية داخل الكهوف، والتي بكل تأكيد لا تستخدم لأغراض معيشية.
أقدم تمثال منحوت منذ 230.000 إلى 800.000 سنة قبل الميلاد
أقدم تصوير لمنحوتة تشبه الشكل البشري هي منحوتة ” Venus of Hohle Fels “، عمرها حوالي 40.000 سنة.
منحوتة أو تمثال “فينوس- venus”، هي أي تمثال يرجع لثقافة صُنع الأدوات “Gravettian toolmaking” التي وجدت خلال العصر الحجري القديم الأعلى – Paleolithic Upper. و يصور التمثال تفاصيل لجسد المرأة بشكل واضح، و تم العثور على الكثير من تلك التماثيل في أوروبا، وفي أماكن بعيدة مثل سيبيريا، وتوسع نطاق وجودها حتى وصلت لأنحاء متفرقة من أوراسيا.
وجدت تماثيل أخرى من فترة زمنية أقدم لمنحوتة فينوس تسمى “تان تان” في المغرب العربي، ويعود تاريخها من ” 300.000 إلى 500.000 ” سنة مضت.
# تقول الأسطورة، وكما كان يعتقد آنذاك، أن كوكب الزهرة كان امرأة جميلة أختيرت من بين كل النساء ورفعت للسماء في شكل نجمة، ولذلك أطلق عليها صانعوا ومكتشفي تلك التماثيل اسم “فينوس” أي كوكب الزهرة.
رسومات الكهوف المكتشفة حديثاً في أوروبا، منذ 42.000 إلى 43.500 سنة قبل الميلاد
في عام 2012، اكتشفت رسومات داخل كهوف “نيرجا” في مقلة – إسبانيا، من قبل باحثين أثبتوا أن تلك الرسومات تسبق عهد رسومات كهوف “شوفيه” الشهيرة في جنوب شرق فرنسا منذ أكثر من 10.000 سنة. حيث وجدت بقايا الفحم النباتي بالقرب من 6 لوحات جدراية في كهوف “نيرجا”، مما ساعد العلماء في تحديد عمرها عن طريق الكربون المشع.
تلك الرسومات تنوعت من تصوير لمعارك حيوانات، ومواد غذائية محلية لإنسان “نياندرتال”، الذي سكن المنطقة في ذلك الوقت. وأشار “خوسيه لويس” أحد علماء الآثار، أن تلك الرسومات تفتقر إلى التشابه مع رسومات كهوف أخرى من العصر الحجري القديم، كما لم يتم العثور على رفات للإنسان في شبه الجزيرة التي تضم كهوف نيرجا.
رسومات بصمة اليدين الكهفية، أو كهف الأيادي منذ 37.900 سنة قبل الميلاد
كهف بصمات الأيدي
أشكال مميزة في كهوف “سولاويزي” في إندونيسيا، وآثار لواحدة من أقدم الرسومات الكهفية التمثيلية، التي تعتبر رسومات مشابهة للرسومات الفنية غير التمثيلية القديمة، كما هو الحال بالنسبة للوحات كهف “كاستيو منذ 40.800 سنة، واللوحات الموجودة في كهف” شوفيه منذ 37.000 سنة.
معنى أنها رسومات تمثيلية، هي أنها ناتجة من إظهار وتمثيل بصمة أو شكل اليدين على جدران الكهف، وليس رسماً تخيلياً، وتعرف بأنها أقدم اكتشاف لبصمة عضو بشري في ما لا يقل عن 39.900 سنة مضت.
رُسمت تلك الأيادي عن طريق عملية فنية بسيطة لا تزال تستخدم إلى الآن، وهي وضع اليد على الصخور ثم رشها بالطلاء الأحمر، أو الأسود كما موجود في الكهوف، وبإزاحة اليد عن الصخر، يظهر شكلها بوضوح على الجدار.
أقدم المنحوتات العاجية منذ 35.000 سنة قبل الميلاد
منحوتات عاجية، أي منحوتات لأشكال حيوانات وأدوات مصنوعة من العاج. عثر علماء الآثار من جامعة “توبنجن” عام 2007، على مخبأ يحتوي على منحوتات يصور حيوانات صغيرة في “شفابن جورا”، وهي هضبة في ولاية “بادن فورتمبيرغ” في ألمانيا. يُعتقد أنها أولى المنحوتات العاجية المعروفة.
وجدت مجموعة مكونة من 5 قطع لمنحوتات من العاج العملاقة في كهوف “فوجيلهيرد” في جنوب غرب ألمانيا، وهو موقع غنيّ باكتشافات الكهوف الأثرية العديدة. اكتشف علماء الآثار في هذه الكهوف تماثيل عاجية أخرى مثل “الرجل الأسد الشهير Hohlenstein Stadel”، ومنحوتة ” Fels Hohle Venus of”، بالإضافة لاثنين من تماثيل لشخصيات مجهولة الهوية.
تم العثور على ثلاثة تماثيل أخرى في نفس المنطقة، من نفس المرحلة العُمرية التي شملت أقدم تمثال معروف من الطيور، بالتوازي مع اكتشاف تمثال لـ “therianthropic”، وهي منحوتة تتصف بشكلها العام المميز الذي يظهر نصف بشري، و نصف حيواني.
أقدم منحوتة فنية مصنوعة من الخزف، منذ 22.000 – 28.000 سنة قبل الميلاد
أول تمثال معروف صُنع من الخزف، هو تمثال لمنحوتة تدعى “Venus of Dolni Vestonice”، تعود لثقافة تدعى ثقافة صُنع الأدوات “Gravettian toolmaking”، وهي ثقافة ظهرت في أوروبا خلال “العصر الحجري القديم – العلوي”. تعتبر تلك المنحوتة ضمن تصنيف منحوتات “venus” حول العالم، والتي تتشابه معها ظاهرياً.
تم العثور عليها في 13 يوليو عام 1925، في “دولني فيستونيك “جنوب” مورافيا- تشيكوسلوفاكيا”، ولذلك سُميت المنحوتة تيمناً باسم المنطقة. طولها 11.3 سم، وتشبه في شكلها إلى حد كبير تفاصيل جسد امراة، لكنها بشكل أبسط و أوضح من منحوتات “فينوس” البدائية، بالإضافة إلى شقين صغيرين في الرأس يمثلان العيون. الجدير بالذكر هنا أن صناعة الخزف، سبقت صناعة الفخار قبل 14.000 عاماً.