وشَرَعَ ابن طفيل في الإشارة إلى بعض ما شاهده (حي) أثناء الكشف والمشاهدة:
"عندما أفاق من حالِهِ تلك التي هي شبيهة بالسُّكْر، خطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى، وأن حقيقة ذاته هي ذات الحق، وأن الشيء الذي كان يظن أولًا أنه ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئًا في الحقيقة، بل ليس شيءٌ إلا ذات الحق..."24.
ولكن كل مَن يقرأ هذا الكلام - الذي ذكره ابن طفيل - يذهب بذهنه على الفور إلى نظرية "الاتحاد" المشهورة، وهذا قد يجلب على ابن طفيل الويلات، في مجتمع يُنكر مثل هذه الأمور، ويحرق كتب أصحابها، بل قد يحرق أصحابها أنفسهم!
فيلجأ ابن طفيل إلى إيثار السلامة كعادته، فيقول:
"وكادت هذه الشبهة ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته، وتلقّاه بهدايته... فإن الكثير والقليل، والواحد والوحدة والجمع، والاجتماع والافتراق - هي كلُّها من صفات الأجسام، وتلك الذوات المُفارِقة العارفة بذات الحق عز وجل - لبراءتها عن المادة - لا يجب أن يقال: إنها كثيرة ولا واحدة... غير أن العبارة في هذا الموضع قد تضيق جدًّا؛ لأنك إن عبَّرتَ عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا هذا، أوهَمَ ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة، وإن أنت عبَّرت بصيغة الإفراد، أوهَمَ ذلك معنى الاتحاد، وهو مستحيل عليها... وبقي في ذلك مُتردِّدًا، ولم يمكنه أن يقطع عليه بأحد الوصفين دون الآخر..."25..
وهكذا ينهي ابن طفيل قضية "الاتحاد" بنفس الطريقة التي أنهى بها قضية "قِدَم العالم"، وهو الشك والتردد، وعدم القطع بأحد القولين، أو إن شئتَ فقل: "التوفيق بينهما".
ثم أشار ابن طفيل إلى مشاهد أخرى، رآها (حي بن يقظان) في مقام الكشف والصدق، وفي هذه النقطة نلاحظ أنه يتحدث عن "نظرية الفيض" بحذافيرها، كما قال بها "الفارابي"، ومِن قبله "أفلوطين"؛ فهو يتحدث عن "الفلك الأعلى"، و"فلك الكواكب الثابتة"، و"فلك زحل"، و"فلك القمر".
وتلك النظرية يكفينا هنا أن نورد وصف الفيلسوف ابن رشد عنها، إذ يقول:
وفي نهاية تلك المرحلة الأهم في حياة (حي)، كان قد بلغ الغاية على أكملِ وأتمِّ وجه، وعرف الله حق المعرفة، "ولمَّا عاد إلى العالم المحسوس، وذلك بعد جولاته حيث جال، سَئِم تكاليف الحياة الدنيا، واشتدَّ شوقُه إلى الحياة القصوى، فجعل يطلب العود إلى ذلك المقام بالنحو الذي طلبه أولًا، حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أولًا، ودام فيه ثانيًا مدة أطول من الأولى... وما زال الوصول إلى ذلك المقام الكريم يزيد عليه سهولة، والدوام يزيد فيه طولًا بعد مدة، حتى صار بحيث يصل إليه متى شاء، ولا ينفصل عنه إلا متى شاء، فكان يلازم مقامه ذلك، ولا ينثني عنه إلا لضرورة بدنه..."26.
6- التقاؤه بـ"أبسال"؛ (مرحلة اتفاق العقل والنقل، ومحاولة الاختلاط بالناس لإصلاحهم):
هنا ينقلنا ابن طفيل إلى مرحلة أخرى في حياة (حي)، بعيدًا عن جزيرته وعزلته قليلًا، لكنه لا يلبث أن يعود مرة أخرى (كما سنرى في أحداث تلك القصة).
يذكر ابن طفيل أنه كانت هناك جزيرة قريبة من جزيرة (حي)، وكانت على تلك الجزيرة مِلة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض الأنبياء، وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فَتَيان من أهل العلم والفضل والرغبة في الخير، يسمَّى أحدهما "أبسال"، والآخر "سلامان"؛ "فأما أبسال، فكان أشد غَوْصًا في الباطن، وأكثر عثورًا على المعاني الروحانية، وأطمع في التأويل... وأما سلامان، فكان أكثر احتفاظًا بالظاهر، وأشد بعدًا عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل... وكلاهما مُجِدٌّ في الأعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى، وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل على العزلة والانفراد، وتدل على أن الفوز والنجاة فيهما، وأقوال أُخَر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة... فتعلَّق أبسال بطلب العزلة... وتعلق سلامان بملازمة الجماعة... وكان اختلافُهما في هذا الرأي سببَ افتراقهما..."27.
ولهذا قرر أبسال أن يذهب إلى تلك الجزيرة "جزيرة حي"؛ حيث سَمِع أنها خالية من البشر، فأراد أن يعتزل الناس، وينفرد بعبادة الله هناك.
وبعد مدة من بقاء أبسال على تلك الجزيرة متعبِّدًا مسبِّحًا متضرِّعًا إلى الله، صادف أن التقى (حي بن يقظان)، في مشهد يصفه ابن طفيل وصفًا بديعًا.
ولكنَّ (حيًّا) لم يكن يعرف الكلام؛ إذ نشأ طيلة حياته لم يلتقِ بشرًا، ولا يعرف إلا أصوات الحيوانات حوله، "فشرع أبسال في تعليمه الكلام... حتى تكلم في أقرب مدة... فجعل أبسال يسأله عن شأنه، ومِن أين صار إلى تلك الجزيرة، فأعلمه (حي بن يقظان) أنه لا يدري لنفسه ابتداءً ولا أبًا ولا أمًّا أكثر من الظَّبية التي ربَّتْه، ووصف له شأنه كله، وكيف ترقَّى بالمعرفة حتى انتهى إلى درجة الوصول..."28.
وبعد أن حكى (حي) لأبسال قصته، وما وصل إليه من معرفة بالله وصفاته العُلى، وما شاهده عند الوصول للكشف، لم يَشُكَّ أبسال في جميع الأشياء التي وردت في شريعته، ففرح بذلك فرحًا شديدًا، "وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مُشكل في الشرع إلا تبيَّن، ولا مُغلَق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح، وصار مِن أولي الألباب"29.
وكذلك بدأ (حي) يسأل "أبسال" عن قصته وشأنه، فحكى له عن أمره وجزيرته، ووصف له جميعَ ما جاء في شريعته، ففهم (حي بن يقظان) جميع ما جاءت به الشريعة، ولم يرَ فيه شيئًا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم، فعلم يقينًا أن الذي وصف ذلك وجاء به فهو محق صادق في قوله، رسول من عند ربه، فآمن به (حي) وصدَّقه في رسالته، وألزم نفسه بأداء الفرائض والشرائع التي أمر بها ذلك الدين.
وبعد أن حكى أبسال أمرَ الناس وغَمْرَتهم ومعاصيهم وبُعدهم عن فهم بواطن الشريعة، مع تَمسُّك بالظواهر، اشتدَّ إشفاق (حي) على الناس، "وطمع أن تكون نجاتُهم على يديه، وحدثت له نية في الوصول إليهم، وإيضاح الحق لديهم، وتبيينه لهم... فأعلَمَه أبسال بما هم عليه من نقص الفطرة والإعراض عن أمر الله، فلم يتأتَّ له فهمُ ذلك..."30، ولكن (حيًّا) ألحَّ على صاحبه، فوافق، وذهبا إلى تلك الجزيرة.
ولما نزلا الجزيرة اصطحبه أبسال إلى أصحابه المقرَّبين، وعرفهم بأمر (حي بن يقظان) وقصته، فأعظموه وبجلوه وأكبروا أمره، "وأعلَمَه أبسال أن تلك الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس، وأنه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز"31.
فبدأ (حي) يُعلِّمهم أسرار الحكمة، ولكن ما إن ترقَّى قليلًا عن الظاهر، جعلوا ينفرون منه وينقبضون عنه، ويتسخَّطونه في قلوبهم، "وما زال (حيُّ بن يقظان) يستلطفهم ليلًا ونهارًا، ويبين لهم الحق سرًّا وجهارًا، فلا يزيدهم ذلك إلا نَبْوًا ونِفَارًا... فانقطع رجاؤه من صلاحهم... وتصفَّح طبقات الناس بعد ذلك، فرأى كلَّ حزب بما لديهم فَرِحون... قد غَمَرتهم الجهالة، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون..."32
وبعد مرور (حي بن يقظان) وصاحبه أبسال بتلك التجربة القاسية، والمحاولة الفاشلة في تعليم الناس بواطن الشريعة ومقاصدها، لا ظواهرها وقشورها؛ ليصلوا بهم إلى مقام الصدق والمشاهدة وعين اليقين... تيقَّن (حي) أن الحكمة كلَّها والتوفيق كله والهداية كلها فيما نطقت به الرُّسُل، ووردت به الشريعة، فهم أعلم بطبيعة الناس وفِطرتهم، وما يناسبهم لإصلاح أحوالهم، وليس كل أحد يستطيع أن يَبلُغ من العلم والفهم والغوص ما بلغ (حيٌّ) وصاحبه "أبسال".
"فانصرفَ إلى سلامان وأصحابه، فاعتذر عما تكلم به معهم، وتبرَّأ إليهم منه، وأعلَمَهم أنه قد رأى مثل رأيهم، واهتدى بمثل هديهم، وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة، وقِلة الخوض فيما لا يعنيهم، والإيمان بالمتشابهات والتسليم لها، والإعراض عن البدع والأهواء، والاقتداء بالسلف الصالح، والترك لمحدثات الأمور..."33.
وبعد هذه النصائح النفيسة التي وجهها (حي بن يقظان) لأهل الجزيرة - بعد أن عَلِم أن الله ورسوله وشريعته أحكمُ وأعلمُ وأفهمُ لطبيعتهم منه - توجه هو وصاحبه أبسال عائدين إلى جزيرتهما؛ للتفرغ للعبادة، حتى أتاهما اليقين.
فضلا تابع في الردود