۩ روائع الفن العالمي ۩
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
۩ روائع الفن العالمي ۩

۩ روائــــع الفـــــــن العـــــــــربي والعـــــــالمي ۩
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيلدخول



شاطر
 

 عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حي بن يقضان
مراقب(ة)
مراقب(ة)
avatar

مساهماتي : 80
نقاط : 145
۩ مهنـــــــــــتي ۩ : طالب جامعي
۩ هواياتــــــــــي ۩ : المطالعة
ذكر

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) Empty
مُساهمةموضوع: عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)   عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 15 2018, 12:45

عرض كتاب: حي بن يقظان



لابن طفيل (581 هـ)


 
تمهيد:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا: (حي بن يقظان) لابن طُفَيل، هو واحد من روائع المكتبة الفلسفية الإسلامية، وهو إحدى الكتابات الرائدة في مجال الرواية الفلسفية أو القصة الفلسفية؛ حيث يمتزج سَرْد الأحداث بالآراء الفلسفية، في قالب قصصي شائق، يجعل أعقدَ المسائل الفلسفية تصل لعقل قارئها في أبسط صورة وأوضح عبارة، دون ملل أو كلل.
 
وأصل قصة (حي بن يقظان) هي قصة "أبسال وسلامان" اليونانية، ولكن المحتوى نفسه مختلف تمامًا عند الفلاسفة المسلمين الأربعة الذين تناولوا قصة (حي بن يقظان).
 
فأول مَن كتب عن قصة (حي بن يقظان)، هو ابن سينا (428هـ)، وتلاه ابن طُفَيل (581هـ)، ثم السهروردي (587هـ)، الذي أطلق على قصته اسم "الغريبة الغربية"، وأخيرًا ابن النفيس (687هـ)، الذي غير اسم (حي بن يقظان) إلى "فاضل بن ناطق"، وأطلق على قصته اسم "الرسالة الكاملية".
 
ولكن قصة (حي بن يقظان) عند ابن طُفَيل، هي أكمل هؤلاء الأربعة، وأنضجها، وأطولها، وأكثرها استيعابًا؛ لذلك فقد حازت هي خاصَّةً اهتمامَ الفلاسفة شرقًا وغربًا، وتُرجمت للغات عديدة، وعندما يُذكر (حي بن يقظان) في المطلق، فأول مَن يتبادر إلى الذهن هو ابن طفيل دون غيره.
 
وابن طفيل كان من المُقِلِّين جدًّا في التأليف، ولم يصِلْنا من مؤلفاته سوى (حي بن يقظان)، ونستطيع أن نقول: إن فلسفة ابن طفيل كلَّها مبثوثة في كتابه (حي بن يقظان)؛ فبقراءة فاحصة للكتاب يمكن أن نستخرج منه آراءه الفلسفية، وتصوُّرَه للكون والخالق، وقِدَم العالم وحدوثه، والنُّبُوة والشريعة، والعقل والنقل، والتصوف والاعتزال، والاختلاط... ونستطيع كذلك أن نرى بكل وضوح فلسفتَه التوفيقية، ومحاولةَ إزالة التعارض بين النقل والعقل، أو بين الشرع والفلسفة... إلى غير ذلك من القضايا الفلسفية التي تعمَّد "ابن طفيل" أن يبُثَّها في قالب قصصي روائي؛ ربما لأهداف تعليمية؛ حيث إن القصص أبلغ الوسائل التعليمية في إيصال المُراد وتوضيحه... وربما لأسباب تتعلق بطبيعة المجتمع المغربي - آنذاك - الرافض للفلسفة والفلاسفة، فأراد ابن طفيل بذلك أن يشير إلى آرائه الفلسفية في شكل قصصي؛ حتى يكون الأمر أدعى للقبول وأهون في نفوس مستقبليه.
 
وفي الوُرَيْقات التالية عَرْضٌ لكتاب (حي بن يقظان) عند ابن طفيل، نتناول فيه أهمَّ النقاط التي تعرَّض لها ابن طفيل في كتابه، ونُعلِّق على ما أمكن منها؛ بداية من مقدمة ابن طفيل للكتاب التي يظهر فيها بوضوح الجانب النقديُّ في شخصيته، ويظهر أيضًا الجانبان الفلسفيُّ (العقلي) والصوفيُّ (الذوقيُّ) معًا، ثم مرورًا بأحداث القصة، والمراحل التي مر بها (حي)، ثم ختامًا بالنتيجة التي توصَّل إليها (حي) في نهاية حياته، وهي تُعبِّر بالضرورة عن فِكر ابن طفيل نفسه.
 
وسيتمُّ عَرْض القصة من خلال المراحل العُمْريَّة التي مر بها (حي) في مسيرة حياته حتى مماته؛ ففي كل مرحلة عُمْرية كان يرتقي في المعرفة، وينتقل إلى التفكير في قضية فلسفية كُبرى، ويتدرَّج في ذلك حتى يصلَ إلى معرفة الله حقَّ المعرفة، والفَنَاء فيه، والكمال المطلق... وسأُقسِّم المراحل العُمْرية الأساسية كالتالي:
1- من ولادته حتى بلوغه سبعة أعوام؛ (مرحلة النشأة، وتقليد الحيوانات).
2- حتى بلوغه 21 عامًا؛ (مرحلة معرفة النفس، وبدايات النضج).
3- حتى بلوغه 28 عامًا؛ (مرحلة التأمل في الكائنات، واكتشاف أن لكل حادث مُحدِثًا).
4- حتى بلوغه 35 عامًا؛ (مرحلة التأمل في الأجسام السماوية، وشدة شوقه لمعرفة الخالق، ونفرته من العالم المحسوس).
5- حتى بلوغه 50 عامًا؛ (مرحلة الفناء عن نفسه، والكشف والمشاهدة، وبلوغ الكمال).
6- التقاؤه بـ "أبسال"؛ (مرحلة اتفاق العقل والنقل، ومحاولة الاختلاط بالناس لإصلاحهم).
 
• وتجدُر الإشارة إلى أن النسخة التي اعتمدتُ عليها، وإليها أشير في الهامش، هي طبعة وزارة الثقافة القطرية (2014م)، بتحقيق وتعليق أحمد أمين، وتقديم حسن حنفي.

(فضلا تابع في الردود)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حي بن يقضان
مراقب(ة)
مراقب(ة)
avatar

مساهماتي : 80
نقاط : 145
۩ مهنـــــــــــتي ۩ : طالب جامعي
۩ هواياتــــــــــي ۩ : المطالعة
ذكر

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) Empty
مُساهمةموضوع: رد: عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)   عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 15 2018, 12:51

مقدمة ابن طفيل


بعد أن افتتح ابن طفيل كتابه بالحمد لله والثناء عليه، قال: "سألتَ أيها الأخ الكريم الصفيُّ الحميم - منحك الله البقاء الأبَديَّ، وأسعدك السعد السرمديَّ - أن أبُثَّ إليك ما أمكنني بثُّه من أسرار الحكمة المشرقة، التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا..."1
 
وأثناء استطراده يظهر بوضوح من أول وهلة الجانبُ الصوفيُّ في شخصية ابن طفيل؛ عندما يقول: "ولقد حرَّك مني سؤالُك خاطرًا شريفًا، أفضى بي - والحمد لله - إلى مشاهدة حال لم أشهدها قبلُ، وانتهى بي إلى مبلغ هو من الغرابة بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان؛ لأنه من طَوْر غير طَوْرهما، وعالَم غير عالَمهما..."2
وذكر بعد ذلك أن مطلوبَ صديقه هذا الذي سأله بثَّ أسرار الحكمة - لا يعدو أحدَ غرضين3:
1- إما أن تسأل عمَّا يراه أصحاب المشاهدة والأذواق والحضور في طور الولاية، فهذا مما لا يمكن إثباتُه على حقيقة أمره في كتاب...
 
2- وإما أن تبتغي التعريف بهذا الأمر على طريقة أهل النظر، وهذا - أكرمك الله بولايته - شيء يحتمل أن يوضع في الكتب وتتصرف به العبارات، ولكنه أعدَمُ من الكبريت الأحمر، ولا سيما في هذا الصُّقْعِ الذي نحن فيه (يقصد بلاد الأندلس)...
 
ثم بدأ بعد ذلك يظهر الطابعُ النقديُّ في شخصيته، هذا الطابع الذي يتميز به فلاسفةُ المغرب والأندلس عمومًا.. فقد انتقد ابن طفيل أربعة من الفلاسفة4؛ هم: "ابن باجه، والفارابي، وابن سينا، والغزالي"، على تفاوت في قوة النقد لكل منهم؛ حيث يبلغ النقد ذروتَه عند حديثه عن "الفارابي" و"الغزالي"، اللذَيْن وصفهما بالتناقض والتخبُّط وعدم الاتزان... ويَقِلُّ الهجومُ نسبيًّا عند تناول "ابن باجه" و"ابن سينا".

فضلا تابع في الردود
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حي بن يقضان
مراقب(ة)
مراقب(ة)
avatar

مساهماتي : 80
نقاط : 145
۩ مهنـــــــــــتي ۩ : طالب جامعي
۩ هواياتــــــــــي ۩ : المطالعة
ذكر

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) Empty
مُساهمةموضوع: رد: عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)   عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 15 2018, 12:56

حي بن يقظان
أوضح ابن طُفَيل قبل أن يشرع في سرد أحداث قصة (حي)، أن الغرض الذي دفعه لتأليف هذا الكتاب هو توضيح الطريق الذي يسلكه المُريد بكل أطواره حتى يصل إلى معرفة الله الكاملة، والفناء فيه، والمكاشفة...
 
مُنبِّهًا صديقه السائل أنه لن يُوَضِّح له غاية الطريق ونهايتَه إلا بعد شرح مسالكه وبدايته:
"غير أنَّا إنْ ألقينا إليك بِغايات منها ما انتهينا إليه من ذلك من قبل أن نحكم مباديها معك، لم يُفِدْك ذلك شيئًا أكثرَ من أمر تقليديٍّ مُجمَل... ونحن لا نرضى لك هذه المنزلة، ونحن لا نَقْنَع لك بهذه الرتبة... وإنما نريد أن نَحْمِلَك على المسالك التي قد تَقدَّم عليها سلوكنا، ونَسْبح بك في البحر الذي قد عبرناه أولًا، حتى يُفضي بك إلى ما أفضى بنا، فتشاهد ما شَهِدناه، وتتحقَّق ببصيرة نفسِك كلَّ ما تحقَّقْناه..."5.
 
فإلى حكاية (حي):
1- من ولادته حتى بلوغه سبعة أعوام؛ (مرحلة النشأة، وتقليد الحيوانات):
مهَّد ابن طفيل قبل دخوله في أحداث القصة، بذكر الطريقة التي وُلِد بها (حي بن يقظان)، وذكر أنهم اختلفوا في ولادته على رأيَيْن:
الأول: أنه وُلِد من الطبيعة، من طين الأرض، من غير أب ولا أم، في جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، تسمَّى جزيرة "الواقواق"؛ لأن تلك الجزيرة أعدلُ بقاع الأرض هواء، وأتمُّها لشروق النور الأعلى عليها استعدادًا...6
 
وقد أطال ابن طفيل في حديثه عن محاولة إثبات إمكانية حدوث التوالد الطبيعي دون أب ولا أم!7 ولكنه كان يسوق الحُجَجَ على لسان مَن يقولون بإمكانية ذلك؛ وربما هذه التورية بالحديث على لسان الغير خوفًا من اتهام الناس له، ومحاولةً منه لتبرئة نفسه إذا هوجم أو تعرض للاتهام بالتفلسف والتزندق! حيث كانت تلك النظرة السائدة آنذاك في المجتمع المغربي والأندلسي، وهذا الملمح نلاحظه عند ابن  طفيل في كل مواضع الكتاب حينما يتعرض لقضية فلسفية شائكة.
 
الثاني: ومنهم مَن أنكر إمكانية حدوث هذا التوالد الطبيعي، وروى من أمره خبرًا، خلاصته: أنه كان بإزاء تلك الجزيرة جزيرةٌ عظيمة يملكها رجل شديد الغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحُسن باهر، ومنعها الزواجَ؛ إذ لم يجد لها كُفْئًا، وكان له قريب يُسمَّى "يَقْظان"، فتزوجَها سرًّا، فحملت منه وأنجبت (حيًّا)، فلما خافت أن يفتضح أمرُها وضعَتْه في تابوت أحكَمَتْ زمَّه، وخرجت به إلى ساحل البحر وقلبُها يحترق صبابةً به وخوفًا عليه، وودعَتْه قائلةً: "اللهم إنك قد خلقْتَ هذا الطفل ولم يكن شيئًا مذكورًا... وأنا قد سلمتُه إلى لُطفك... فكُن له ولا تُسْلِمه يا أرحم الراحمين"، ثم قذفَتْ به في اليَمِّ، فألقاه اليَمُّ إلى الجزيرة التي فيها نشأ (حي)...8
 
بعد أن ذكر ابنُ طفيل الطريقة التي وُجِد بها حي بن يقظان على تلك الجزيرة النائية الخالية من البشر، بدأ يوضح كيف استطاع أن يعيش دون راعٍ، وهو بعدُ طفلٌ رضيع.
 
تصادف وجودُ ظبية قد فقدت ولدَها، وكان (حي) قد اشتدَّ عليه الجوع وبكى واستغاث، فلما سمعتْ الظبية الصوت ظنَّتْه ولدها، فتتبعت الصوت حتى وصلت إليه؛ فحنَّت عليه ورَئِمت به، وألقَمَتْه حلمتها وأَرْوَته لبنًا سائغًا، وما زالت تتعهَّده وتربيه وتدفع عنه الأذى، حتى تم له حَوْلان، وتدرج في المشي وأَثْغَرَ، فكانت تحمله إلى مواضع الشجر المُثمِر، وتطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة، وهكذا كانت له الظبية كالأم في رعايتها وتَحْنانها.
 
وفي هذه الأثناء بدأ (حي) يلاحظ الفروق الجسدية بينه وبين الحيوانات من حوله، فكان ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالأوبار والأشعار والريش، وسرعة العَدْوِ وقوة البطش، وأسلحتها للدفاع عن نفسها؛ مثل القرون والأنياب والمخالب... وكان ينظر إلى نفسه ولا يرى شيئًا من ذلك كلِّه، فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه، فبدأ يتَّخذ من أوراق الشجر لباسًا له، وكانت نفسُه تنازعه إلى اتخاذ أذناب الوحوش الميتة ليعلِّقها على نفسه، إلى أن صادف في بعض الأيام نسرًا ميتًا، فاغتنم الفرصة، فأقدَمَ عليه وقطع جناحَيْه وذنَبَه، واتخذ منهم لباسًا له، فأكسَبَه ذلك سترًا ودفئًا ومَهابة في نفوس جميع الوحوش؛ حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه...
 
وعندما وصل إلى السابعة من عمره، كانت الظبية التي ترعاه أصابها الهُزَال والضَّعف، فكان يرتاد بها المراعي، ويجتني لها الثمرات الحلوة ويطعمها، إلى أن أدركها الموت، فلما رآها الصبيُّ على تلك الحالة جزع جزعًا شديدًا، "فكان ينظر إلى أذنَيْها وإلى عينيها فلا يرى بها آفةً ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة، فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة، فيُزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه، فلم يتأتَّ له شيء من ذلك ولا استطاعه..."9.
 
وموت الظبية كان بالنسبة لـ(حي) حدثًا فارقًا في حياته؛ حيث كان الدافعُ إلى معرفة ما حَلَّ بها ومحاولةُ علاجه هو الذي أدخلَه في المرحلة الثانية من حياته المليئة بالتساؤلات.
 


فضلا تابع في الردود
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حي بن يقضان
مراقب(ة)
مراقب(ة)
avatar

مساهماتي : 80
نقاط : 145
۩ مهنـــــــــــتي ۩ : طالب جامعي
۩ هواياتــــــــــي ۩ : المطالعة
ذكر

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) Empty
مُساهمةموضوع: رد: عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)   عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 15 2018, 13:01

2- حتى بلوغه 21 عامًا؛ (مرحلة معرفة النفس، وبدايات النضج):
لما رأى (حي) ما حل بالظبية التي في مقام أمه، كان همُّه الشاغل هو ماذا حدث لها؟! وكيف حدث؟! ولماذا حدث؟! وكيف أعالِجُها مما أصابها؟!
 
"فلما نظر إلى جميع أعضائها الظاهرة ولم يرَ فيها آفة ظاهرة، وَقَعَ في خاطره أن الآفة التي نزلت بها إنما هي في عضو غائب عن العِيَان، مُسْتَكِن في باطن الجسد... فلما نزلت به الآفة عَمَّت المضرة، وشملت العطلة، وطمع بأنه لو عثر على ذلك العضو، وأزال عنه ما نزل به، لاستقامَتْ أحوالُه، وفاض على سائر البدن نفعُه، وعادت الأفعال إلى ما كانت عليه..."10.
 
واستطرد ابن طفيل في وصف حَيْرة (حي)، ومحاولتِه معرفة موضع الخلل، حتى وصل به الأمر إلى تشريح الظبية، وبعد تأمل وتفكير عميق، وصفه ابن طفيل بشكل بديع، اكتشف (حي) القلبَ وأهميتَه في الجسد، وبدأ في تشريحه أيضًا، علَّه يجد فيه ضالَّته، إلا أنه بعد بحث شاق، وتأمُّل أشقَّ، وصل (حي) إلى اكتشافٍ أعظم وأخطر؛ هو "الروح" أو "النفس"، وأنه هو أصل حياة الجسد، وبدونه لا قيمة للجسد، "وأن هذا الجسد بجُملته إنما هو كالآلة لذلك، وبمنزلة العصا التي اتخذها هو لقتال الوحوش، فانتقلت علاقة (حي) عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحرِّكه، ولم يبق له شوقٌ إلا إليه"11.
 
ومعلومٌ أن ابن طفيل كان طبيبًا ماهرًا في عصره، وهذا يظهر بوضوح عند وصفه تشريح (حي) للظبية وسائر الحيوانات من بعدها، وصفًا دقيقًا، ومعرفة تامة بكافة أعضاء الجسد.
 
وأثناء تلك المرحلة من حياته اكتشف النار، واكتشف لها استخدامات كثيرة جدًّا، فعَظُمَ ولوعُه بها، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه، "وكان دائمًا يراها تتحرك إلى جهةِ فوق وتطلب العلو، فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية التي كان يشاهدها"12.
 
وكان ولعُه بها لدرجة أن ظنَّها أصلَ الحياة أو الروح التي تمنح الجسدَ الحياةَ، وهذا حرَّك في نفسه الشهوة إلى البحث عن سائر أعضاء الحيوان، وترتيبها وأوضاعها، وكيفية عملها... فتتبَّع ذلك كلَّه بتشريح الحيوانات؛ الأحياء والأموات، "ولم يَزَل ينعم النظر فيها، ويجيل الفكرة، حتى بلغ في ذلك مبلغ كبار الطبيعيين..."13.
 
وفي تلك المرحلة أيضًا اهتدى (حي) إلى البناء، وبنى بيتًا له، يتحصَّن به ويسكن فيه، كما أنه بدأ في تسخير الحيوانات وركوبها؛ ليطارد بها صيده، ويستعينَ بها على قضاء حوائجه.
 
3- حتى بلوغه 28 عامًا؛ (مرحلة التأمل في الكائنات، واكتشاف أن لكل حادث مُحدِثًا):
وفي هذه المرحلة ارتقى (حي) إلى درجة أعلى في تأمل وتصفح جميع الموجودات المحيطة به؛ من حيوانات، ونباتات، وجمادات...
 
"فظهر له بهذا التأمل أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحدٌ بالحقيقة، وإن كان فيه اختلافٌ يسير اختص به نوع دون نوع... ثم كان يرجع إلى أنواع النبات على اختلافها... فكان يَقيسها بالحيوان، ويعلم أن لها شيئًا واحدًا اشتركت فيه، هو لها بمنزلة الروح للحيوان... ثم ينظر إلى الأجسام التي لا تُحِس ولا تَغْتَذي ولا تنمو؛ مِن الحجارة والتراب والماء والهواء واللهب..."14.
 
وأثناء بحثه هذا وصل إلى التقسيم الأرسططاليسي المعروف: (الجنس والنوع والفصل)، وهذا يُظهر تأثُّرَ ابن طُفَيل بمنطق أرسطو وفكر اليونان، كما سيبدو أكثرَ جلاءً في مسيرة (حي) المتبقية.
 
وأثناء استغراق (حي) في تأمُّل جميع الموجودات، تبيَّن له بشكل أعمق وجود "النفس" التي هي أصل حياة الأجساد، فهانَ عنده معنى الجسمية، فاطَّرَحَه، وتعلَّق فكره بالنفس، فتشوَّق إلى معرفتِها أكثرَ، والتزم الفكرة فيها.
 
وبأسلوبٍ بديعٍ، أخذ ابن طفيل يطوف بنا في عالَمِ تأملِ الكائنات، حتى يصل في النهاية إلى إثبات وجود خالق، وأن كل شيء لا بد له من صانع، "فعَلِمَ بالضرورة أن كل حادث لا بد له من مُحدِث، فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار فاعلٌ للصورة ارتسامًا على العموم دون تفصيل... فلما لاح له من أمر هذا الفاعل ما لاح على الإجمال دون تفصيل، حدث له شوق حثيث إلى معرفته على التفصيل... فتصفَّح جميع الأجسام التي لديه، التي كانت فكرته فيها، فرآها كلها تتكون تارة وتَفسُد أخرى... ولم يرَ منها شيئًا بريئًا عن الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار، فاطَّرَحَها كلَّها، وانتقلت فكرتُه إلى الأجسام السماوية"15.
 
وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياة (حي بن يقظان)؛ حيث انتقل فكرُه وتأمله من محيطه الأرضي إلى السماء والكون باتساعه وعظمته؛ أملًا منه في العثور على هذا الخالقِ العظيم لكل تلك الموجودات.


فضلا تابع في الردود
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حي بن يقضان
مراقب(ة)
مراقب(ة)
avatar

مساهماتي : 80
نقاط : 145
۩ مهنـــــــــــتي ۩ : طالب جامعي
۩ هواياتــــــــــي ۩ : المطالعة
ذكر

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) Empty
مُساهمةموضوع: رد: عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)   عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 15 2018, 13:07

4- حتى بلوغه 35 عامًا؛ (مرحلة التأمل في الأجسام السماوية، وشدة شوقه لمعرفة الخالق، ونفرته من العالم المحسوس):
واستغرق (حي) في تأمُّله للكواكب والأجسام السماوية والكون، حتى وصل إلى النتائج التالية:
أولًا: أن السماء وما فيها من الكواكب أجسام؛ لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة: الطول والعرض والعمق، لا ينفكُّ شيء منها عن هذه الصفة.
 
ثانيًا: ثم بدأ يفكر هل هي ممتدة إلى ما لا نهاية، أم متناهية بحدود تنقطع عندها؟ وبعد تأمل طويل وبحث عميق، توصل إلى أنها متناهية، ولها حدود تحدها، وتبيَّن له أيضًا أن الفَلَك على شكل الكرة.
 
ثالثًا: واستنتج بعد كل هذا أن الأجسام السماوية والكون كله هو أيضًا محتاج إلى فاعل، كبقية الأجسام الأرضية التي عرفها من قبل.
 
وهنا انتقل بنا ابن طفيل إلى قضية فلسفية شائكة وخطيرة، بسببها كَفَّر أبو حامد الغزاليُّ الفلاسفةَ من قبلُ... وهي قضية "قِدَم العالم"؛ فقد تفكَّر (حي) في العالم بجملته، "هل هو شيء حدث بعد أن لم يكن، وخرج إلى الوجود بعد العدم؟ أو هو أمر كان موجودًا فيما سلف ولم يسبقْهُ العدمُ بوجه من الوجوه؟ فتَشَكَّك في ذلك، ولم يترجَّح عنده أحدُ الحكمين على الآخر..."16.
 
وهنا نَلْحَظ أن ابن طفيل قد آثر السلامة حينما لم يحسِم رأيه بأحد القولين، بل إنه حاول التوفيق بين القولين بأنَّ النتيجة النهائية التي نصل إليها واحدة؛ "وصحَّ له على الوجهين جميعًا وجودُ فاعل غير جسم، ولا متصل بجسم ولا منفصل عنه، ولا داخل فيه ولا خارج عنه، والاتصال والانفصال والدخول والخروج هي كلُّها من صفات الأجسام، وهو مُنزَّهٌ عنها... وتبيَّن له افتقار جميع الموجودات في وجودها إلى هذا الفاعل، وأنه لا قيام لشيء منها إلا به، فهو إذًا عِلَّة لها، وهي معلولة له، سواء كانت مُحْدثةَ الوجود بعد أن سبقها العدم، أو كانت لا ابتداء لها من جهة الزمان ولم يسبقها العدم قط، فإنها على كلا الحالين معلولة، ومُفتقِرة إلى الفاعل، متعلِّقة الوجود به، ولولا دَوَامُه لم تَدُم، ولولا وجودُه لم توجَد، ولولا قِدَمُه لم تكن قديمةً، وهو في ذاته غنيٌّ عنها وبريء منها..."17.
 
وفي نهاية تلك المرحلة من حياة (حي)، كان قد رسخ في قلبه من أمر الفاعل ما شَغَلَه عن الفكرة في كل شيء إلا فيه، حتى صار لا يقع بصرُه على شيء من الأشياء إلا ويرى فيه أثرَ الصنعة، فينتقل بفِكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتدَّ شوقُه إليه، وانزعج قلبُه عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأرفع المعقول.
 
5- حتى بلوغه 50 عامًا؛ (مرحلة الفناء عن نفسه، والكشف والمشاهدة وبلوغ الكمال):
هذه هي أهم وأخطر مراحل حياة (حي بن يقظان)، ففيها قد بلغ النضج الكامل؛ بمعرفة الله والكشف والمشاهدة.
 
فأراد أن يبحث عن الطريقة التي بها يعرف الله، وكان قد تبيَّن له أن هذا الموجودَ واجبَ الوجود "الله" - بريءٌ من صفات الأجسام؛ فإذًا لا سبيل إلى إدراكه إلَّا بشيء ليس بجسم، "وقد كان تبيَّن له أنه أدركه بذاته، ورسخت المعرفة به عنده؛ فتبيَّن له بذلك أن ذاته التي أدركه بها أمرٌ غير جسماني... فلمَّا عَلِم أن ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدركها بحواسه، هانَ عنده بالجملة جسمُه، وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة التي أدرك بها ذلك الموجود الشريف الواجب الوجود..."18.
 
وبعد تأمل طويل، وصراع مرير بين الجَسَد الذي يشده إلى الأرض وشهواتها، والروح التي تسمو به إلى العلا - توصَّل إلى أن الأعمال التي يجب عليه أن يفعلها تنحصر في ثلاثة أغراض:
أولًا: إما عمل يتشبه فيه بالحيوان، وذلك للضرورة التي يحتاجها جسده للحياة...
 
ثانيًا: وإما عمل يتشبَّه فيه بالأجسام السماوية ويقتدي بها، فألزمَ نفسه دوام التطهُّر، وإزالة الدنس والرجس عن جسمه، والتزم أيضًا ضروبَ الحركة على الاستدارة؛ فكان تارةً يطوف حول الجزيرة ويسيح بأكنافها، وتارة كان يطوف ببيته، وتارة يدور على نفسه، حتى يُغشَى عليه19.
 
وهذا الدوران بهذه الطريقة نلاحظه عند كثير من الطرق الصُّوفية، التي تجعل منه وِردًا لها وأساسًا يُميِّزها؛ للسمو والارتقاء بالروح، كالطريقة المَوْلَوِيَّة، وغيرها.
 
ثالثًا: وإما عمل يتشبَّه فيه بالموجود الواجب الوجود، "فتحصل به المشاهدةُ الصِّرْفَة، والاستغراق المحض، الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه إلا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهده هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وتلاشت"20.
 
فتبيَّن له أن مطلوبه الأعظم هو هذا التشبه الثالث، وأنه لا يحصل له إلا بعد التمرُّن والاعتماد مدة طويلة في التشبه الثاني، وأن هذه المدة لا تدوم إلا بالتشبه الأول...
 
واستطرد ابن طفيل كثيرًا في شرحه لكيفية تطبيق (حي بن يقظان) لهذه التشبُّهات الثلاثة، بفلسفة صوفية محضة21 حتى وصل إلى الغاية المنشودة، "وما زال يطلب الفناء عن نفسه، والإخلاص في مشاهدة الحق، حتى تأتَّى له ذلك، وغابت عن ذكره السموات والأرض وما بينهما... وتلاشى الكل واضمحل وصار هباءً منثورًا، ولم يبقَ إلا الواحد الحق... واستغرق في حالته هذه، وشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..."22
 
وهنا انتقل ابن طفيل إلى مسألة أخرى، وهي: هل يمكن التعبير عن تلك الحالة التي وصل إليها (حي) من الكشف والمشاهدة، وشرح ذلك باللغة والكلمات؟!
فأكَّد أنه "مَن رام التعبير عن تلك الحالة، فقد رام مستحيلًا؛ وهو بمنزلة مَن يريد أن يذوق الألوان المصبوغة من حيث هي الألوان، ويطلب أن يكون السواد مثلًا حُلوًا أو غامضًا، لكنا مع ذلك لا نخليك عن إشارات نومئ بها إلى ما شاهده من عجائب ذلك المقام، على سبيل ضرب المثال، لا على سبيل قرع باب الحقيقة؛ إذ لا سبيل إلى التحقيق بما في ذلك المقام إلا بالوصول إليه..."23.
 


فضلا تابع في الردود
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حي بن يقضان
مراقب(ة)
مراقب(ة)
avatar

مساهماتي : 80
نقاط : 145
۩ مهنـــــــــــتي ۩ : طالب جامعي
۩ هواياتــــــــــي ۩ : المطالعة
ذكر

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) Empty
مُساهمةموضوع: رد: عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)   عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 15 2018, 13:14

وشَرَعَ ابن طفيل في الإشارة إلى بعض ما شاهده (حي) أثناء الكشف والمشاهدة:
"عندما أفاق من حالِهِ تلك التي هي شبيهة بالسُّكْر، خطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى، وأن حقيقة ذاته هي ذات الحق، وأن الشيء الذي كان يظن أولًا أنه ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئًا في الحقيقة، بل ليس شيءٌ إلا ذات الحق..."24.
 
ولكن كل مَن يقرأ هذا الكلام - الذي ذكره ابن طفيل - يذهب بذهنه على الفور إلى نظرية "الاتحاد" المشهورة، وهذا قد يجلب على ابن طفيل الويلات، في مجتمع يُنكر مثل هذه الأمور، ويحرق كتب أصحابها، بل قد يحرق أصحابها أنفسهم!
 
فيلجأ ابن طفيل إلى إيثار السلامة كعادته، فيقول:
"وكادت هذه الشبهة ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته، وتلقّاه بهدايته... فإن الكثير والقليل، والواحد والوحدة والجمع، والاجتماع والافتراق - هي كلُّها من صفات الأجسام، وتلك الذوات المُفارِقة العارفة بذات الحق عز وجل - لبراءتها عن المادة - لا يجب أن يقال: إنها كثيرة ولا واحدة... غير أن العبارة في هذا الموضع قد تضيق جدًّا؛ لأنك إن عبَّرتَ عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا هذا، أوهَمَ ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة، وإن أنت عبَّرت بصيغة الإفراد، أوهَمَ ذلك معنى الاتحاد، وهو مستحيل عليها... وبقي في ذلك مُتردِّدًا، ولم يمكنه أن يقطع عليه بأحد الوصفين دون الآخر..."25..
 
وهكذا ينهي ابن طفيل قضية "الاتحاد" بنفس الطريقة التي أنهى بها قضية "قِدَم العالم"، وهو الشك والتردد، وعدم القطع بأحد القولين، أو إن شئتَ فقل: "التوفيق بينهما".
ثم أشار ابن طفيل إلى مشاهد أخرى، رآها (حي بن يقظان) في مقام الكشف والصدق، وفي هذه النقطة نلاحظ أنه يتحدث عن "نظرية الفيض" بحذافيرها، كما قال بها "الفارابي"، ومِن قبله "أفلوطين"؛ فهو يتحدث عن "الفلك الأعلى"، و"فلك الكواكب الثابتة"، و"فلك زحل"، و"فلك القمر".
 
وتلك النظرية يكفينا هنا أن نورد وصف الفيلسوف ابن رشد عنها، إذ يقول:
وفي نهاية تلك المرحلة الأهم في حياة (حي)، كان قد بلغ الغاية على أكملِ وأتمِّ وجه، وعرف الله حق المعرفة، "ولمَّا عاد إلى العالم المحسوس، وذلك بعد جولاته حيث جال، سَئِم تكاليف الحياة الدنيا، واشتدَّ شوقُه إلى الحياة القصوى، فجعل يطلب العود إلى ذلك المقام بالنحو الذي طلبه أولًا، حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أولًا، ودام فيه ثانيًا مدة أطول من الأولى... وما زال الوصول إلى ذلك المقام الكريم يزيد عليه سهولة، والدوام يزيد فيه طولًا بعد مدة، حتى صار بحيث يصل إليه متى شاء، ولا ينفصل عنه إلا متى شاء، فكان يلازم مقامه ذلك، ولا ينثني عنه إلا لضرورة بدنه..."26.
 
6- التقاؤه بـ"أبسال"؛ (مرحلة اتفاق العقل والنقل، ومحاولة الاختلاط بالناس لإصلاحهم):
هنا ينقلنا ابن طفيل إلى مرحلة أخرى في حياة (حي)، بعيدًا عن جزيرته وعزلته قليلًا، لكنه لا يلبث أن يعود مرة أخرى (كما سنرى في أحداث تلك القصة).
 
يذكر ابن طفيل أنه كانت هناك جزيرة قريبة من جزيرة (حي)، وكانت على تلك الجزيرة مِلة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض الأنبياء، وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فَتَيان من أهل العلم والفضل والرغبة في الخير، يسمَّى أحدهما "أبسال"، والآخر "سلامان"؛ "فأما أبسال، فكان أشد غَوْصًا في الباطن، وأكثر عثورًا على المعاني الروحانية، وأطمع في التأويل... وأما سلامان، فكان أكثر احتفاظًا بالظاهر، وأشد بعدًا عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل... وكلاهما مُجِدٌّ في الأعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى، وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل على العزلة والانفراد، وتدل على أن الفوز والنجاة فيهما، وأقوال أُخَر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة... فتعلَّق أبسال بطلب العزلة... وتعلق سلامان بملازمة الجماعة... وكان اختلافُهما في هذا الرأي سببَ افتراقهما..."27.
 
ولهذا قرر أبسال أن يذهب إلى تلك الجزيرة "جزيرة حي"؛ حيث سَمِع أنها خالية من البشر، فأراد أن يعتزل الناس، وينفرد بعبادة الله هناك.
 
وبعد مدة من بقاء أبسال على تلك الجزيرة متعبِّدًا مسبِّحًا متضرِّعًا إلى الله، صادف أن التقى (حي بن يقظان)، في مشهد يصفه ابن طفيل وصفًا بديعًا.
 
ولكنَّ (حيًّا) لم يكن يعرف الكلام؛ إذ نشأ طيلة حياته لم يلتقِ بشرًا، ولا يعرف إلا أصوات الحيوانات حوله، "فشرع أبسال في تعليمه الكلام... حتى تكلم في أقرب مدة... فجعل أبسال يسأله عن شأنه، ومِن أين صار إلى تلك الجزيرة، فأعلمه (حي بن يقظان) أنه لا يدري لنفسه ابتداءً ولا أبًا ولا أمًّا أكثر من الظَّبية التي ربَّتْه، ووصف له شأنه كله، وكيف ترقَّى بالمعرفة حتى انتهى إلى درجة الوصول..."28.
 
وبعد أن حكى (حي) لأبسال قصته، وما وصل إليه من معرفة بالله وصفاته العُلى، وما شاهده عند الوصول للكشف، لم يَشُكَّ أبسال في جميع الأشياء التي وردت في شريعته، ففرح بذلك فرحًا شديدًا، "وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مُشكل في الشرع إلا تبيَّن، ولا مُغلَق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح، وصار مِن أولي الألباب"29.
 
وكذلك بدأ (حي) يسأل "أبسال" عن قصته وشأنه، فحكى له عن أمره وجزيرته، ووصف له جميعَ ما جاء في شريعته، ففهم (حي بن يقظان) جميع ما جاءت به الشريعة، ولم يرَ فيه شيئًا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم، فعلم يقينًا أن الذي وصف ذلك وجاء به فهو محق صادق في قوله، رسول من عند ربه، فآمن به (حي) وصدَّقه في رسالته، وألزم نفسه بأداء الفرائض والشرائع التي أمر بها ذلك الدين.
 
وبعد أن حكى أبسال أمرَ الناس وغَمْرَتهم ومعاصيهم وبُعدهم عن فهم بواطن الشريعة، مع تَمسُّك بالظواهر، اشتدَّ إشفاق (حي) على الناس، "وطمع أن تكون نجاتُهم على يديه، وحدثت له نية في الوصول إليهم، وإيضاح الحق لديهم، وتبيينه لهم... فأعلَمَه أبسال بما هم عليه من نقص الفطرة والإعراض عن أمر الله، فلم يتأتَّ له فهمُ ذلك..."30، ولكن (حيًّا) ألحَّ على صاحبه، فوافق، وذهبا إلى تلك الجزيرة.
 
ولما نزلا الجزيرة اصطحبه أبسال إلى أصحابه المقرَّبين، وعرفهم بأمر (حي بن يقظان) وقصته، فأعظموه وبجلوه وأكبروا أمره، "وأعلَمَه أبسال أن تلك الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس، وأنه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز"31.
 
فبدأ (حي) يُعلِّمهم أسرار الحكمة، ولكن ما إن ترقَّى قليلًا عن الظاهر، جعلوا ينفرون منه وينقبضون عنه، ويتسخَّطونه في قلوبهم، "وما زال (حيُّ بن يقظان) يستلطفهم ليلًا ونهارًا، ويبين لهم الحق سرًّا وجهارًا، فلا يزيدهم ذلك إلا نَبْوًا ونِفَارًا... فانقطع رجاؤه من صلاحهم... وتصفَّح طبقات الناس بعد ذلك، فرأى كلَّ حزب بما لديهم فَرِحون... قد غَمَرتهم الجهالة، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون..."32
 
وبعد مرور (حي بن يقظان) وصاحبه أبسال بتلك التجربة القاسية، والمحاولة الفاشلة في تعليم الناس بواطن الشريعة ومقاصدها، لا ظواهرها وقشورها؛ ليصلوا بهم إلى مقام الصدق والمشاهدة وعين اليقين... تيقَّن (حي) أن الحكمة كلَّها والتوفيق كله والهداية كلها فيما نطقت به الرُّسُل، ووردت به الشريعة، فهم أعلم بطبيعة الناس وفِطرتهم، وما يناسبهم لإصلاح أحوالهم، وليس كل أحد يستطيع أن يَبلُغ من العلم والفهم والغوص ما بلغ (حيٌّ) وصاحبه "أبسال".
 
"فانصرفَ إلى سلامان وأصحابه، فاعتذر عما تكلم به معهم، وتبرَّأ إليهم منه، وأعلَمَهم أنه قد رأى مثل رأيهم، واهتدى بمثل هديهم، وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة، وقِلة الخوض فيما لا يعنيهم، والإيمان بالمتشابهات والتسليم لها، والإعراض عن البدع والأهواء، والاقتداء بالسلف الصالح، والترك لمحدثات الأمور..."33.
 
وبعد هذه النصائح النفيسة التي وجهها (حي بن يقظان) لأهل الجزيرة - بعد أن عَلِم أن الله ورسوله وشريعته أحكمُ وأعلمُ وأفهمُ لطبيعتهم منه - توجه هو وصاحبه أبسال عائدين إلى جزيرتهما؛ للتفرغ للعبادة، حتى أتاهما اليقين.


فضلا تابع في الردود

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حي بن يقضان
مراقب(ة)
مراقب(ة)
avatar

مساهماتي : 80
نقاط : 145
۩ مهنـــــــــــتي ۩ : طالب جامعي
۩ هواياتــــــــــي ۩ : المطالعة
ذكر

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) Empty
مُساهمةموضوع: رد: عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)   عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 15 2018, 13:19

الخاتمة
بعد هذه الرحلة في رحاب قصة (حي بن يَقْظان)، كما رواها علينا ابن طُفَيل، نستخرج منها الملاحظات التالية:
لقد حاول ابن طفيل أن يوفِّق بين الفلسفة والشريعة، وبين العقل والنقل، وإزالة أي شبهة للتعارض بينهما؛ فأراد أن يثبت أن أيَّ إنسان ذي فطرة سوية يمكن أن يصل إلى معرفة الله والإيمان به، وأن هذا سيتطابق مع الدين الصحيح الذي جاء من عند الله بواسطة رسله.
 
أراد ابن طُفَيل أن يثبت أيضًا أن الإنسان يستطيع بمفرده دون حاجة إلى نبيٍّ مُرسَل، أن يصل إلى الله من خلال التجربة الذاتية والتأمل العقلي، والارتقاء في مراتب الإدراك حتى يصل إلى أعلى منازل الكشف واليقين.
 
يظهر بوضوح الجانبُ الفلسفي الهليني والهلينستي عند ابن طفيل، فيتَّضِح في فلسفته تأثُّرُه بأرسطو، وأفلوطين، والفارابي، في مواضع عديدة؛ مثل تقسيمه الموجودات إلى جنس ونوع وفصل، وكذلك في نظرية الفيض، وكلامه في مسألة قِدَم العالم وحدوثه...
 
يحضر أيضًا بقوة الجانب الصوفي (الذوقي) عند ابن طفيل، فهو لم يقصر معرفة الله تعالى وإدراكه على الجانب العقلي النظري، بل تجاوز ذلك إلى التجربة الصوفية التأمُّلية، وصولًا إلى مرحلة الكشف والمشاهدة والفناء عن النفس، وهذه كلها مصطلحات صوفية.
 
يُسلِّم ابن طفيل بأن الشريعة المنزلة للناس عن طريق الأنبياء - التي تخاطبهم بالظاهر، دون التأويل والتعمق في الباطن - هي الأنسب والأحكم لهم، وأن الله تعالى أعلم بعباده وفِطرتهم، فيأتي لهم بما يوافق طبائعهم وأفهامهم؛ ليصلح شؤونهم ويقوِّم أحوالهم... أما مَن يصل مِن الناس إلى مرتبة الكشف والمشاهدة والغوص في باطن الشريعة ومعرفة التأويل، فهم قليل نادر جدًّا؛ لذلك لا ينبغي لأهل الكشف أن يُحدِّثوا الناس بما لا يمكن لعقولهم إدراكُه؛ حتى لا يفتنوهم عن دينهم، أو يتَّهموهم بالزندقة والخروج عن الشرع.
 
والحمد لله في البَدْءِ والخِتَام.





1 ص15.
2 ص16.
3 ص19.
4 انظر: ص21، ص24.
5 ص25.
6 انظر: ص26، 27.
[7] انظر: ص26: ص32.
[8] انظر: ص27، 28.
[9] ص35.
[10] ص36.
[11] ص39.
[12] ص41.
[13] ص42.
[14] ص46، 47 بتصرف.
[15] ص54، 55 بتصرف.
[16] ص59.
[17] ص61.
[18] ص64.
[19] انظر: ص77.
[20] ص73.
[21] انظر: ص73: ص80.
[22] ص80، بتصرف.
[23] ص80، 81.
[24] ص81.
[25] ص82، بتصرف.
[26] ص87، بتصرف قليل.
[27] ص89، بتصرف قليل.
[28] ص92، بتصرف قليل.
[29] ص93.
[30] ص95.
[31] ص95.
[32] ص96.
[33] ص97.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
البشير
عضو جديد
عضو جديد
avatar

مساهماتي : 4
نقاط : 6
۩ مهنـــــــــــتي ۩ : استاذ
۩ هواياتــــــــــي ۩ : رياضة
ذكر

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) Empty
مُساهمةموضوع: رد: عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)   عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) I_icon_minitimeالثلاثاء يناير 16 2018, 23:21

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) 3878234796

عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة) 3944214208
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
عرض كتاب: حي بن يقظان لابن طفيل (581 هـ)(منقول عن شبكة الالوكة)
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب الجاحظ -البخلاء
» كتاب” Yo Al Mutamid أنا المعتمد ”
» كتاب أرض السعادة - ستيفن كينغ
» تحميل كتاب "السمفونية الراعوية" لأندريه جيد
» ملامح ألأدب الفرنسي في القرن السابع عشر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
۩ روائع الفن العالمي ۩  ::  ۩ روائع من الادب العالمي ۩  ::  ۩روائع من روايات الادب العالمي والعربي ۩ -
انتقل الى: