أمسك الرسام المغربي سعيد فرحات الريشة بأطراف أصابعه، وراح يتأمل المساحة البيضاء التي أمامه.. بدا كمن يريد أن يتخلص من أشياء تقلقه، تتوقد بداخله كجمر.. تنهّد بعمق وغمس ريشته في خليط الألوان الزيتية، وسرعان ما انكشف بهذه المساحة الصغيرة عالم كبير لا يحده حد.
رسم هذا الفنان العصامي، بنشاط وحماس كبيرين، في الجداريات المتعرجة لحيه "بوزكار" بمدينة انزكان (جنوب المغرب)، وتألقت ريشته وهي تتغزل بالجمال البسيط لتكوين مناظر الطبيعة المغربية، وقد جسدتها بحيوية ألوانه المتناغمة في لوحات غرافيتية بدت كأنها طبيعة حقيقية.
وبينما تراقب عيون شباب حيّه إبداعاته بإعجاب ودهشة، يضفي الرسام لمسة جمالية على جداريات الحي التي قالوا إنهم "تطوعوا في مبادرة تزيينه لتحفيز صديقهم على الإبداع والتعريف بأعماله".
اشتهر سعيد في مدينته بسبب رسوماته التي يُنظر إليها على أنها تكاد تكون مطابقة للواقع، مما يجعل الناظر إليها متشككا: هل هي لوحة فنية أم صورة.. هذه الشكوك قال سعيد "إنه سمعها أكثر من مرة"، وعبّر بفخر أنها تؤكد إتقانه لعمله.
يجسد سعيد إبداعاته بأدوات بسيطة (الجزيرة)
طاقة دافعة
يتذكر سعيد يوم قرر مقاومة أميته وفقره، فأصبحت الريشة هي الطاقة الدافعة لمجابهة ظروفه القاسية. ويذكر أنه لم يسلم من غواية الريشة والألوان في مدينة انزكان التي "تشكل كل عالمه بألوانها اللامتناهية وباتساع أفقها".
يقول في حديث خاص للجزيرة نت إن موهبته تشكلت ملامحها في طفولته، وسوط جدته حينها كان يجلده كلما نفذ خربشاته على الجدران وفي الأماكن العامة، من دون إذن مسبق.
حكى سعيد كيف كان يفضل اللعب واللهو بالأقلام والألوان، ويقضي معظم وقته في الرسم أمام باب المدرسة، وهو يراقب الأطفال الذين يتوجهون يوميا إلى أقسامهم بينما هولا يستطيع ذلك.
وقال إنه "كان يمسك بأنامله الرقيقة ورقة وقلما، ويرسم ما يدور في مخيلته البريئة من صور لأبطال الأفلام الكرتونية مثل: كابتن ماجد، بوكيمون، أبطال الديجيتال، النمرالمقنع، ماوكلي... كما أن الكثير من رسوماته عبر فيها عن أحلامه الصغيرة (الألعاب التي حرم منها، المدرسة التي لم يلجها، الأسرة التي لم ينعم بحضنها...).
لوحة رسمها سعيد احتفاء بذكرى المسيرة الخضراء (الجزيرة)
هبة الخالق
ورغم كون موهبته "هبة من الخالق"، فإنها كانت رائعة في إخراجها الطفولي، بشكل جعل إعجاب تلاميذ المدرسة يرافق خربشات قلمه الأولى وألوان رسوماته البكر، فحفزه ذلك كما يقول على "نسخ رسوماته وبيعها لهم بأقل من دولار".
ولم تلبث أن تحولت فطرية نشأته وتعليمه الذاتي عبر مراحل عمره إلى طاقة هائلة، نجح في التعبير عنها بطريقة مبتكرة. قال ابن خالته أيوب "إنها لفتت انتباه ساكنة حيه، وهم يتابعون أعماله الفنية ويشجعونه على المزيد".
وأكد الشاب العشريني الذي لم يدرس فن الرسم وقواعده في أي معهد، ويجهل أي مدرسة ينتمي إليها فنه، أنه "استطاع أن يجسد نموذجا فريدا في رسوماته عبر تقنية الأبعاد الثلاثية" التي تجعل الرسم بحسبه "يبدو كأنه مجسم حقيقي، لن يدرك الناظر إليه أنه مجرد رسم على جدار أو لوحة إلا عند الاقتراب منه وتحسسه".
ويشرح سعيد "رسام الفطرة" كما يلقبه زملاؤه، بأنه لا يعرف إلا خمسة ألوان أصلية وهي الأبيض والأصفر والأحمر والأزرق والأسود، و"يستخرج منها باقي الألوان بتلقائية".
رسوم تجسد موهبة الرسام سعيد (الجزيرة)
أمنية مؤجلة
وأثنى رشيد على موهبة صديقه سعيد وقال "مهما كانت أدواته وخاماته بسيطة يمكنه أن يجعل منها فنا ينال الإعجاب". وأضاف أن "لوحاته الفنية أو الرسومات التي تزين حوائط الغرف السكنية أو جدران المدارس تظهر موهبته الفريدة".
وعُرف عن الفنان سعيد أنه لا يحتفظ بلوحاته الفنية التي يرسمها بمرسمه البسيط في بهو منزل العائلة المتواضع، لأنه ينجزها تحت الطلب مقابل أثمان تتراوح بين 49 و490 دولارا"، لذلك عبّر عن أمنيته بأن يلقى الدعم ليقيم معرضا يعرّف بفنه خارج حدود مدينته.
المصدر : الجزيرة